"ماذا سيكون رأي غرامشي حيال مآزقنا الحالية؟" تساءلَ رئيس بلدية مدينة كالياري الإيطالية اليساري الشاب ماسيمو زيدا ثم أجاب: "ربما سيفكّر بأن أمورنا تحسنت، لكننا نواجه أيضاً مشاكل كثيرة في سردينيا... ولهذا نحتاج إلى أن نتنظّم". بهذا التصريح أعلن رئيس البلدية الذي يرتدي الجينزالأزرق عام 2017 "عاماً لغرامشي" وافتتح مؤتمر "قرن من الثورات: مسارات غرامشية في العالم". وكان 27 نيسان لحظة مناسبة لتسليط الضوء من جديد على حياة وأعمال أنطونيو غرامشي في الذكرى الثمانين لموته، في السنة التي حددت أيضاً الذكرى المئوية للثورة الروسية ومرور سبع سنوات على الانتفاضات العربية التي اتسمت بالاضطراب. إن الطاقة والحماس اللذين أحاطا بهذه المناسبة الخاصة بغرامشي، والتي جرت في الملعب الرئيسي المجاور لثانوية غرامشي القديمة وبالقرب من شقته الأولى حين كان طالباً، جمعا معاً الطلاب والسكان المحليين، والتأمل الفكري والحيوات العادية، والنظرية والممارسة، وهذه سمة غرامشية محضة.
تواصل المؤتمر لمدة يومين تبعتْه رحلة للتعرف على حياة غرامشي الأولى في قرية غيلارزا، في وسط ساردينيا، حيث تحول منزله إلى متحف، ثم العودة إلى كالياري من أجل نزهة سيراً على الأقدام. ورأينا مدرسته الثانوية والمنزل الذي سكن في إحدى غرفه مع أخيه غينارو، ومقهاه المفضل، وحانوت الخياطة سيء الصيت الذي كان مالكه القاسي يأخذ نقود غرامشي كتسديد لدين والده، الذي تورط في مشاكل، ورفض أن يعطيه معطفه الشتوي الذي انتظره طويلاً.
في تلك اللحظات، لم أستطع مقاومة التساؤل عما يمكن أن يقوله غرامشي عن مآزق منطقتنا، وكيف سيقرأ الثورات العربية. وبالقليل الذي تعلّمْتهُ منه، تخيلته يجيب:"ما الذي أعرفه؟ أحتفظ بحكمي لإيطاليا، أما بالنسبة للشرق الأوسط فأترك المسألة للذين يعرفون التفاصيل الدقيقة للمنطقة". ولم يكن هذا مفاجئاً ذلك أن رؤى غرامشي كانت تستند إلى اطلاع عميق على خفايا الدولة الإيطالية والمجتمع وثقافته التابعة. وكان إصراره على الخصوصيات التاريخية هو الذي قاده إلى الانفصال نظرياً عن الحتمية الاقتصادية للأممية الثالثة واستراتيجيات الثورة: هجوم لينين المباشر وثورة تروتسكي الدائمة وإضراب روزا لوكسمبورغ العام. وضجر من الصور الوصفية لمجتمع يتألف فقط من البروليتاريا والبرجوازية تهيمن عليه الدولة والطبقات الحاكمة. وقدم تحليلاً ذكياً للطبقة الوسطى وطبقات اجتماعية أخرى وأعاد دراسة العلاقات بين الدولة والمجتمع وقدم منظوراً جديداً للثورة احتلت فيه الثقافة موقعاً محورياً. ورفض النموذج البلشفي لـ "الهجوم المباشر" أو "الاستيلاء على السلطة" كاستراتيجية للثورة في أوربا لأن الهيمنة الرأسمالية في أوربا اخترقت مجتمعاتها المدنية وفي الحقيقة استمدت القوة منها: نقابات العمال والجمعيات المدنية والأحزاب السياسية والكنيسة. وتصور غرامشي استراتيجية بديلة هي "حرب الموقع" والتي يعمل الثوريون بمقتضاها على كسب المجتمع المدني من خلال الصراعات الثقافية والإيديولوجية، وعلى تحويل الأفكار التحررية إلى شعور عام، ومن ثم يعملون طيلة الوقت كي يحولوا الدولة.
كان نشاط المجتمع المدني بالنسبة لغرامشي مختلفاً عن النماذج التي هيمنت على المشهد السياسي في النظام العالمي النيوليبرالي ما بعد الاشتراكي حيث صار في البداية ترياقاً لكل شيء سيئ في الدولة ثم معادلاً للمنظمات غير الحكومية، وعمل غالباً كنوع من "الآلة المضادة للسياسة”. لقد عنى نشاط المجتمع المدني بالنسبة لغرامشي شيئاً مشابهاً للثورة قبل الثورة.
إلى أي حد نستطيع التفكير مع غرامشي فيما نظل مستجيبين لأحداثنا التاريخية الطارئة، وتجارب ثورات قرننا الواحد والعشرين؟ وكما فهم غرامشي الفروق الدقيقة في بلده إيطاليا يجب أن نفهم تواريخنا المحلية والإقليمية كي نبني منظورات تعكس الفروق الدقيقة لواقعنا الخاص دون أن نسقط في النزعة المحلية النظرية المغلقة والنفور من التعلم من الآخرين. وقد عبر غرامشي عن هذه المسألة حين قال: "هناك فرق بين أن تركز على الخصوصيات وبين أن تنادي بالخصوصية”.
هكذا، من المنصف القول إن فكرة غرامشي بأن الهجوم الثوري المباشر سيصبح عتيق الطراز بعد الثورة الروسية برهنت أنها سابقة لأوانها، ذلك أنه لم يعش كي يشاهد كيف أن معظم ثورات القرن العشرين في الصين وكوبا ونيكاراغوا أو إيران والانتفاضات العربية إلى حد ما تبنت نموذجاً مشابهاً لتجربة الثورة الروسية في 1917. وفي الحقيقة، فإن الثورة، من زاوية الحدث التاريخي والتأملات النظرية ما تزال ملائمة اليوم خاصة حين يتعلق الأمر بالدول الاستبدادية غير القادرة على معالجة الانقسامات الاجتماعية والصراعات السياسية من خلال الآليات المؤسساتية.
على أي حال لا تهدف الثورات فقط إلى الاستيلاء على سلطة الدولة بالرغم من أن هذا جوهري. فالثورات تهدف إلى تأسيس نظام اجتماعي جديد قائم على المساواة والانفتاح من المفترض أن يسعى إليه الثوريون، وفي هذا الصدد تبقى فكرة غرامشي حول بناء الهيمنة في المجتمع المدني بالغة الأهميّة لأنه الساحة التي تتنافس فيها الأعراف والقيم وتُصْقل أعراف وقيم جديدة. لكنّ التنافس على الهيمنة لا يقتصرُ على المجتمع المدني لوحده مهما كانت هذه الساحة استراتيجية. وفي الحقيقة لا يخلو أي فضاء علائقي من التنافس، بما فيه عائلة المرء، أو حتى الحقل الخاص. بالتالي، إن الهيمنة يمكن أن تحدث ليس فقط في المجتمع المدني بل أيضاً على جبهات متعددة. ويمكن أن تشمل "الدولة" (أي الإدارة والنظام القضائي والتعليم أو فضاءات تأديبية مثل السجون، والمجتمع السياسي”) أو فضاءات الدعاية الانتخابية والأحزاب السياسية والتشريع والمجالس المحلية، و"المجتمع المدني”، أي الانتماء إلى جمعيات رسمية وغير رسمية، و"الشارع"، بمعنى الفضاء العام، والنظام العام والرأي العام غير الرسمي وأخيراً "الحقل الخاص" أي نمط الحياة والعلاقات الحميمية والعاطفية والأسرة بإعادة هيكلتها الجوهرية لأدوار الجندر والتراتبيات التي يتردد صداها في جميع مظاهر المجتمع والثقافة.
لكن هناك شيئاً خاصاً لدى غرامشي يميزه عن نظرائه. إن موقع غرامشي كمفكر ثوري يستند عمقياً على كونه مثقفاً عضوياً مطلعاً على تعقيدات الحياة التابعة والخصائص العاطفية التي حملها منذ طفولته: الصعوبات الجسدية والنفسية، المثابرة والجرأة. إن غرامشي الذي وُلد لأسرة متواضعة في قرية في وسط ساردينيا مؤلفة من سبعة أبناء انحدر بسرعة إلى الفقر بعد أن سُجن والده فرانسيس بتهمة الاختلاس. وترك غرامشي المدرسة فترة كي يعمل في مكتب الضرائب كي يساعد أمه التي عملت في الخياطة كي تكسب رزقها. وبغذاء سيء ومنزل دون تدفئة وإعياء متواصل عاش غرامشي وانخرط في حياة تابعة، من موقع واع وتأملي جعل منه نموذجاً لـ"المثقف العضوي".
[ صورة لغرامشي مع ابناء صفه في المدرسة. المصدر مركز غرامشي]
[مدرسة غرامشي الثانوية. وكتب على اللوحة " علموا أنفسكم لأننا سنحتاج كل ذكائنا" تصوير ليندا هيريرا]
يمكن لحياة غرامشي المثمرة والمؤلمة أن تلهمنا وحتى أن تكون سلواناً لنا كي نعمل في أزمنة اليأس هذه. وعلى غرار كثير من الثوريين في الماضي والحاضر، فقد عانى من سجن معذِّب. وكمؤسس للحزب الشيوعي الإيطالي في 1921 اعتقلتْه السلطات الفاشية وحكمت عليه بالسجن عشرين عاماً. كان ضعيفاً وهشاً في عزلته، وأصيب بداء السل وسقطت أسنانه كلها وعانى من صداعات مؤلمة بحيث أنه كان يضرب رأسه بالجدار. لكنه حوَّل محنته إلى فرصة وأنتج بعض أكثر الأعمال الفكرية أصالة وعمقاً في النظرية السياسية والاستراتيجيات الثورية، وفي الفن والأدب واللسانيات، وألّفَ حكايات للأطفال كي يحافظ على صلة معهم. وقد اختار الحبس الانفرادي كي يعمل في جو هادئ وأنتج حوالى أربعمئة رسالة وثلاثة مجلدات من “كراسات السجن” التي تم إخراجها من السجن بمساعدة أصدقاء مثل عالم الاقتصاد في كامبردج بييرو سرافا وأخت زوجته تاتيانا شوت. ونتيجة لإصراره على مقارعة اليأس آمن بمقولة روائيّه المفضل رومان رولان:"تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة".
من الصعب فهم تفاؤل غرامشي بالإرادة في وقت عانى فيه من الألم والاعتقال والقمع السياسي. ربما ساعدته الصفات التي حملها من صباه الفقير. إن زيارة منزله وغرفته والشجرة التي كان يجلس في فيئها كي يقرأ في الصيف، ورؤية ما صنعه أثناء حياته في المتحف: الأحرف التي نسخها بخط مدقق بالتفاصيل، والأشكال الجميلة التي رسمها، والكتب التي قرأها والصحف التي حررها، إن هذه الزيارة تساعد المرء على تصور كيف كان أنطونيو الشاب مركّزاً بشكل فائق للعادة ومرتّباً ومنهجياً. كان غرامشي قصيراً ومحدباً وصحته سيئة منذ الطفولة مما جعله يلوذ بنفسه وصار منطوياً وإن لم يكن معادياً للمجتمع، وهكذا خلق عالماً خاصا به قرأ فيه ورسم وفكر وكتب وتخيل نظاماً جديداً للأشياء. لكن شخصيته التي بدت غريبة ومتوحدة جلبت له المقت والازدراء من فتيان بلدته الذين كانوا أحياناً يرجمونه بالحجارة لكنه كان يرد “بطاقة جعلت مهاجميه يهربون”. إن دفاعه المستميت عن النفس جلب له الاحترام والاعتراف من أعدائه.
كمثقف عضوي، كان غرامشي قادراً على معرفة ومعالجة “مشاعر الناس العاديين٬ حتى وإن كانوا لا “يعرفون” أو “يفهمون”، بينما انتقد المفكرين الذين اعتقدوا أنهم يستطيعون أن “يعرفوا” دون أن “يفهموا” وبالذات دون أن يشعروا. وهكذا أصر أن “المرء لا يستطيع أن يصنع التاريخ دون هيام، دون ارتباط عاطفي بين المثقفين والناس”. هذا التموقع غير العادي مكّن غرامشي من أن يقدم تحليلات ثاقبة حول أزمة عصره، الأزمة التي صارت بفعل مصادفة تاريخية أزمتنا الآن: “حقيقة أن القديم يحتضر والجديد لا يمكن أن يولد”. ويعود الفضل لغرامشي أنه عرف الأزمة ويعود أمر معالجتها إلينا.
[فيديو ليندا هيريرا]
ـ
[معروضات غرامشي. تصوير ليندا هيريرا]
[ترجمة أسامة إسبر. اضغط/ي هنا للنسخة الإنجليزية. نشر هذا المقال بالتعاون بين "جدلية" و"مدى مصر".]